دراسات وشهادات في عالم «أديب نوبل» القصصي والروائي


دراسات وشهادات في عالم «أديب نوبل» القصصي والروائي

إطلالة جديدة على أعماله في «الأستاذ من جديد»


الأربعاء – 23 محرم 1443 هـ – 01 سبتمبر 2021 مـ رقم العدد [
15618]


القاهرة: حمدي عابدين

بالتعاون بين موقع صدى «ذاكرة القصة المصرية» ودار «ميتابوك» للنشر والتوزيع المصرية، صدر كتاب «الأستاذ من جديد»، الذي أشرف عليه الروائي سيد الوكيل. وضمّ الكتاب 3 فصول، بمشاركة عدد من الكتّاب والمبدعين من مصر والعراق والسعودية قدموا شهادات إبداعية حول علاقتهم بعالم محفوظ القصصي وشخصياته الروائية.
تضمن القسم الأول من الكتاب دراسات نقدية بعنوان «مداخل متنوعة إلى عالم نجيب محفوظ». وكانت الأولى للدكتور حسين حمودة بعنوان «زمكان الطريق… قراءة في روايات نجيب محفوظ» التي لاحظ خلالها أن هناك شكلاً من أشكال الالتصاق النسبي بالمكان، الذي يتسم بنوع من الضيق إلى حد ما، في مقابل اتساع الزمن وامتداده ورحابته.
وقال حمودة إن هذا المعنى يؤيده إلحاح هاجس «البيت القديم» في بعض روايات محفوظ، كما تؤكده كثرة تناوله لأماكن محددة، مثل الحارة، الزقاق، البيت، التي يسعى لاستكشاف كل منها خلال أزمنة متعددة.
وذكر حمودة أنه في عدد ملحوظ بين روايات محفوظ توجد مجموعة من الاستراتيجيات الفنية التي تنطلق من فكرة «الخروج» من المكان، وأحياناً الخروج عليه، ما يجسد تجارب متعددة تنبني على مفهوم يتصل بزمن الطريق ومكانه، أو «زمكان الطريق»، وهو ما يتضح في روايات «الطريق» 1964. و«اللص والكلاب» 1961. و«السمان والخريف» 1962. و«الشحاذ» 1966. و«قلب الليل» 1975، و«رحلة ابن فطومة» 1983، وجميعها تتمحور، بشكل واضح، حول تنويعات متعددة على «زمكان الطريق».
ولفت حمودة إلى أن «هذا الزمكان يتجاوز أشكال حضوره الهامشي والعابر، في روايات أخرى، لكنه حاضر في أغلب الروايات بشكل عام؛ إذ يندر أن تجد عملاً يستغني عن تنويع أو آخر على هذا الموضوع. حيث يلوح هذا الزمكان، ويتركز عليه التناول المحوري الذي تتأسس فيه وبه الوقائع الأساسية في الروايات الست؛ حيث تتقاطع في نقطة زمانية ومكانية واحدة الدروب الزمانية والمكانية لمختلف ألوان الناس الذين يمثلون كل الفئات والأوضاع الاجتماعية والمعتقدات والأعمار، وهو ما يجعل أولئك الذين تفصل بينهم عادةً المرتبة الاجتماعية أو البعد المكاني يلتقون مصادفة ويتصارعون وتتصادم مصائرهم على امتداد الأحداث الروائية».
وفي دراسته حول «المعنى الوجودي في رواية قلب الليل» يرى الكاتب سيد الوكيل «أن رحلة جعفر الراوي التي قطعها بحثاً عن ميراثه من جده في (خان جعفر) الذي صار وقفاً، فيما حفيده جعفر الراوي في مسيس الحاجة إلى مليم، والتي انتهت إلى ما بدأت منه حيث لا يقين ولا خلاص… المعنى المرجو منها هو أن تدرك بذاتك (المفردة) كنه ذاتك».
ومن جهتها، قالت الكاتبة العراقية أثير جليل أبو شبع، في دراسة بعنوان «النظرية النفسية لفرويد وانعكاسها في أعمال نجيب محفوظ – رواية (السراب) نموذجاً»، إن نظرية فرويد أثبتت أن الأطفال يقعون تحت تأثير ما يسمى «الانفعال اللاواعي»، ويحتفظون به حتى البلوغ، وهنا يقع الشخص بين صراعي الواقع والمتعة، «حيث يفرض الأول ذاته على النفس، ويؤدي المحيط الموجود حول الفرد إلى تحويل المتع الموجودة إلى نوع من الكبت». وذكرت أبو شبع أن نجيب محفوظ طبقاً لهذه الفلسفة قام ببناء شخصية «كمال» بطل روايته «السراب» وقد جعل اسمه ذا دلالة عكسية، كما هي عادته في أغلب أعماله، حيث يحمل الاسم نقيض أوصاف المسمى، فكمال ليس بكمال، بل شخص انطوائي خجول لا رغبة له بأي تجربة من تجارب الحياة، ولا تتعدى معرفته جدران بيته الأربعة.
وأشارت أبو شبع أن فقدان والدة البطل لزوجها بالطلاق جعلها تغطي على عُقد نقصها بالضغط على ابنها، وجعله لا يرى أحداً سواها، ونتيجة للكبت الذي تعرض له من الأم نشأت عنده مختلف العقد النفسية والشعر بالخزي اللامرئي، بدءاً من مرحلة الطفولة، وصولاً للبلوغ وتحمل المسؤولية، وهكذا مرت حياة الطفولة للبطل بين الاندفاعات والمتعة، وأمام عدم خروج هذه الأمور من اللاوعي وبقائها في الداخل فشل كمال في زواجه وحياته الاجتماعية فيما بعد.
وتضمن الفصل الثاني وعنوانه «أبناء وأحفاد» في حارة نجيب محفوظ شهادات ورؤى لعدد من الكتاب والأدباء، من بينهم الروائي طارق إمام الذي تركزت شهادته حول كتاب «أحلام فترة النقاهة»، وقال إن نصوصه القصصية تمثل وجهاً جديداً تماماً لمحفوظ كاتب الأقصوصة، السوريالي، المتململ من نفسه، وقد صنع محفوظ نصاً مفتوحاً على احتمالات شتى، لا نهائية، حقق خلاله تصوره المتكامل عن «الأقصوصة»، ذلك الشكل الفني الكثيف، الذي لم تعرفه من قبل روح القصة القصيرة المحفوظية.
وكتبت عبير سليمان عن الرمز في قصص كتاب «التنظيم السري»، التي يشرح محفوظ من خلالها منهج العمل داخل تنظيمات جماعات الإسلام السياسي، ويقصد جماعة «الإخوان المسلمين»، وخططهم التي يضعونها في الخفاء، ويتكتمون عليها بسرية تامة. وقالت سليمان إن القصص تطل منها روح السخرية والتهكم التي تميز أسلوب محفوظ؛ حيث يمزج بين العلم والخيال، وبين البعد الإنساني والاجتماعي.
من جهته، ركّز الكاتب السعودي فهد العتيق حديثه على حارات نجيب محفوظ، وقال إن هناك حضوراً كبيراً للمكان، كما أن الرؤية الفلسفية أو السياسية في أدب محفوظ ليست تنظيرية أو مقحمة على النص، لكنها جزء من الموقف الاجتماعي والسياسي والأدبي في النص الروائي الذي يكتبه وجزء من نسيج البناء الموضوعي والفني للنص المتشكل من أسئلة الناس والحوار العفوي بين البشر.
وتضمن الجزء الثالث دراستين مترجمتين، إحداهما بعنوان «التحليل البنيوي ووجهات النظر المختلفة في رواية ميرامار»، للناقدة كاثرين سوان، ترجمها أشرف دسوقي علي، أما الثانية فتركز على «الدين والثقافة والهوية في أعمال نجيب محفوظ»، كتبها أنطونيو كوزار سانتييغو، ونقلتها للعربية خلود محمد الجرايحي.



Art





Source link

استعادة آلاف المخطوطات والأعمال غير المنشورة لسيلين


استعادة آلاف المخطوطات والأعمال غير المنشورة لسيلين

سرقت من بيت الكاتب الفرنسي قبل ما يقرب على 80 عاماً بعد تحرير باريس


الأربعاء – 23 محرم 1443 هـ – 01 سبتمبر 2021 مـ رقم العدد [
15618]


الكاتب والطبيب الفرنسي لويس فيرديناند سيلين

لندن: «الشرق الأوسط»

بعد مرور ما يقرب من 80 عاماً على سرقتها، عاودت آلاف الصفحات، التي كتبها الكاتب والطبيب الفرنسي لويس فيرديناند سيلين، مؤلف الرواية الأسطورية «رحلة إلى نهاية الليل»، الظهور من جديد، حسب موقع «بليج تايمز» الإلكتروني.
ومن المعروف، أن سيلين كان متعاوناً مع ألمانيا النازية ومعادياً للسامية. وعندما فر من باريس إلى ألمانيا، سرقت منه الأوراق التي ظهرت اليوم، والتي تضم في الجزء الأكبر منها كتابات له لم تنشر بعد، من شقته الباريسية الكائنة بمنطقة مونتمارتر. ومن بين الأوراق رواية غير معروفة، وربما ثلاثة كتب أخرى لم تنشر، ومن المقرر أن تنشرها «دار غاليمار».
من جهتها، احتفت صحيفة «لوموند» بهذا الاكتشاف التاريخي لأوراق سيلين المفقودة، التي أقرت المكتبة الوطنية الفرنسية بصحتها. ومن المقرر أن تتولى المكتبة مسؤولية حماية المخطوطات، بناءً على رغبة ورثة الكاتب، كما ذكر الموقع.
ومن أبرز ما تضمنته الأوراق التي عثر عليها رواية غير معروفة بعنوان «لندن»، وتجري أحداثها أثناء الحرب العالمية الأولى، وعمل آخر بعنوان «كاسي بايب» (وقود المعركة)، الذي لم يعرف منها سوى فصل واحد جرى نشره في مجلة كانت معروفة في الأربعينات من القرن الماضي. ومن الممكن النظر إلى هذه القصة الأخيرة، التي تدور في زمن الحرب هي الأخرى، باعتبارها تكمل مجموعة السيرة الذاتية المؤلفة من روايات «رحلة إلى نهاية الليل» (1932)، و«الموت على الائتمان» (1936)، والروايتان الأيقونيتان اللتان جرى نشرهما تحت اسم لويس فيرديناند أوغست ديستوشيز «كوربيفواف» (1894) و«باريس» (1961).
ومن بين المخطوطات التي عثر عليها أيضاً عدة نسخ من غير تلك المنشورة لرواية «الموت على الائتمان» و«فرقة غوينغول» (1943)، بجانب عدد من الوثائق الأدبية وأخرى مرتبطة بالسيرة الذاتية، وهي تفتح آفاقاً جديدة حول أعمال وشخصية سيلين، الذي يعد واحداً من أهم الروائيين الفرنسيين خلال القرن الـ20.
وذكر موقع «بليج تايمز» أن المخطوطات كانت في حوزة جان بير تيبودات، الناقد المسرحي والصحافي السابق لدى صحيفة «ليبراسيون» اليومية. وأكد تيبودات أن الأوراق جرى تسليمها إياها منذ 15 عاماً من جانب متبرع غامض بشرط واحد، وهو عدم الإعلان عنها قبل وفاة أرملة سيلين، لوسيت ديستوشيز، التي توفيت عن 109 أعوام نهاية عام 2019.
ونقل الموقع عن «لوموند الفرنسية» تصريحاً لتيبودات قال فيه: «منذ سنوات عديدة، اتصل بي أحد قراء (ليبراسيون)، وقال إنه يريد إعطائي بعض المستندات. في اليوم المحدد، وصلتني أكياس ضخمة تحوي أوراقاً مكتوبة بخط اليد. وكانت بخط سيلين. وأعطاني هذا الشخص المستندات بشرط واحد: عدم الإعلان عنها قبل وفاة لوسيت ديستوشيز، لأنه لا يرغب في إثراء أرملة الكاتب».
وتلقى تيبودات جبلاً من الوثائق، نحو متر مكعب من الورق. وكانت هذه النسخ الأصلية والوثائق التي سُرقت من الشقة الباريسية التي سكنها الكاتب وزوجته في شارع غيراردون حتى يونيو (حزيران) 1944، والتي هربا منها بسبب التهديد الذي شكله تحرير باريس على زواجهما.
وفي عام 1951، صدر عفو بحق سيلين، وأصبح قادراً على العودة إلى فرنسا بعد عدة سنوات في المنفى في الدنمارك. وندد الكاتب بسرقة أوراقه، لكن جميع التحقيقات لاستعادتها باءت بالفشل. وذكر سيلين حينها أنهم سرقوا أيضاً مخطوطة كبيرة بعنوان «وصية الملك كروغولد»، لم تنشر، وقد ظهرت بين الأوراق المسترجعة، من بين قصص قصيرة ورسائل وصور أخرى.
وألقى سيلين باللوم في عملية النهب على الكورسيكي من أصل يهودي أوسكار روزمبلي، الذي اقتحم منزله الباريسي بعد تحرير العاصمة الفرنسية، واستولى على المخطوطات التي ظلت مخفية طوال 77 عاماً. تجدر الإشارة إلى أن روزمبلي حوكم في سبتمبر (أيلول) 1944 بتهمة اقتراف «أفعال غير شريفة»، واتُهم بارتكاب عمليات سطو أخرى وأمضى بعض الوقت في السجن قبل أن يهرب إلى الولايات المتحدة.
أما سيلين، فقد توفي عام 1961 في مدينة ميودون بالقرب من باريس، التي لا تزال تستقبل كتاباً شباباً يعتبرون سيلين مرجعاً لهم.
من ناحية أخرى، من المقرر أن يذهب جزء من مخطوطات سيلين إلى صناديق المكتبة الوطنية الفرنسية التي اعترفت بصحة وأصالة المخطوطات. ومن بين هذه المخطوطات ما يصل إلى أربعة كتب من المحتمل أن تتولى «دار غاليمار» نشرها، كما ذكرنا، باعتبارها الجهة المحررة لباقي أعمال الكاتب المثير للجدل.
من جهتهم، أعلن ورثة سيلين وكاتب سيرته الذاتية والمحامي فرنسوا غيبول، عن تبرعهم بالمخطوطة الأصلية من رواية «الموت على الائتمان» إلى المكتبة الوطنية الفرنسية كي تشملها بحمايتها بجانب رواية «رحلة إلى نهاية الليل».



Art





Source link

صوفيا أندرييفنا عن تولستوي: يفهم الحياة السيكولوجية للبشر ولا يفهم زوجته وأولاده!


صوفيا أندرييفنا عن تولستوي: يفهم الحياة السيكولوجية للبشر ولا يفهم زوجته وأولاده!

قالت إن كتفيها الضعيفين أوهن من أن يحملا عبء الاقتران برجل عبقري


الأربعاء – 23 محرم 1443 هـ – 01 سبتمبر 2021 مـ رقم العدد [
15618]


صوفيا أندرييفنا وتولستوي

شوقي بزيع

لم تكن العلاقة العاطفية والأسرية التي جمعت بين صوفيا أندرييفنا والكاتب الروسي الشهير ليف تولستوي لتختلف، من حيث تعقيداتها ومفارقاتها الضدية، عن مسار العلاقات المماثلة التي جمعت بين كتاب العالم ومبدعيه ونسائهم الأثيرات اللواتي تقاسمن معهم في وقت لاحق مسرات الحياة ومشقاتها. لكن ما أكسب هذه العلاقة فرادتها وتميزها لا يقتصر على التباينات والخلافات الكثيرة التي عصفت بحياة الزوجين، بل على الطبيعة الإشكالية لشخصية الزوجة التي أخذ تولهها العاطفي بالزوج أشكالاً «مرضية» بالغة الخطورة، والتي حولت نفسها إلى أضحية حقيقية على المذبح المأساوي لغريزة التملك والاستئثار بالآخر المعشوق. وليس بالأمر المستغرب تبعاً لذلك ألا تكون الشخصية العاطفية المعقدة لصوفيا موضع إجماع النقاد والباحثين، بل محلاً دائماً للانقسام وتباين الآراء، بين مَن رأوا فيها صورة المرأة الأشد وفاءً لموهبة تولستوي التي كرست نفسها وحياتها لخدمة عبقريته ومنجزه الأدبي، ومَن رموها في المقابل بأبشع التهم، بدءاً من الأنانية والانهمام الكلي بالذات وصولاً إلى الغيرة القاتلة والرغبة غير المحدودة في الاستيلاء على الزوج وخنقه ومصادرة حريته.
تقدم صوفيا أندرييفنا في المذكرات التي أصدرتها بعيد رحيل تولستوي بسنوات قليلة، تحت عنوان «يوميات الكونتيسة صوفيا تولستايا»، صورة بانورامية وافية عن علاقتها الصعبة بصاحب «الحرب والسلام»، وما رافق حياتهما المشتركة من مسرات ومشقات. والواضح أن المؤلفة كانت تهدف من خلال مذكراتها المكتوبة على شكل يوميات إلى تأريخ تلك المسيرة الطويلة التي جمعتها بالزوج الاستثنائي، والتي ظلت طيلة نصف قرن تتراوح بين الصعود والهبوط، كما بين السعادة الخالصة والشقاء الكلي. ولعل أكثر ما يستوقف القارئ في هذا الإطار هو امتلاك أندرييفنا لكل العناصر التي تمكنها من إنجاح اقترانها بتولستوي، وتحويله إلى فسحة مديدة من السعادة والعطاء والتناغم الأسري. فقد نشأت صوفيا في كنف عائلة ميسورة، في أحد أجنحة قصر الكرملين الشهير، حيث كان والدها هو الطبيب الخاص للقيصر الروسي، وهو ما أتاح لها الحصول على كثير من الامتيازات، ومن بينها الاطلاع على الآداب العالمية، وتذوق كثير من الفنون، والعزف على البيانو، فضلاً عن إتقانها لكثير من اللغات. وإذا لم يكن ثمة ما يدفع الزوجة إلى الشعور بالنقص، أو يسوغ للزوج شعوره بالغربة أو المرارة التي رافقته على امتداد عقود من الزمن، فمن أين كانت تهب إذن تلك العواصف العاتية التي عكرت العلاقة بين الزوجين، والتي حولت حياتهما إلى سلسلة طويلة من المنغصات؟
إن قراءة متأنية ليوميات أندرييفنا التي تتجاوز الثمانمائة صفحة تُظهر بوضوح أن ليس ثمة خلاف يُذكر بين الزوجين حول طبيعة اهتمامات كل منهما على المستوى الثقافي والأدبي، بل كان هناك تناغم واضح بين الطرفين، حتى إن لم تكن آراؤهما حول بعض المفاهيم المتعلقة بشؤون الفن والإبداع متطابقة تماماً. وإذ كانت صوفيا هي من تتولى نسخ أعمال زوجها وطباعتها على الآلة الكاتبة، فإنها حرصت في الوقت نفسه على ألا تكون مجرد «أداة» ناقلة لهذه الأعمال، بل كانت تبدي رأيها الشخصي في كل عمل جديد، مستندة إلى ثقافتها الواسعة وذائقتها المرهفة. وفيما كان الزوج يصغي إلى ملاحظاتها، السلبية منها والإيجابية، باهتمام ملحوظ، كانت ترى في ذلك الإصغاء مدعاة للغبطة والاعتزاز البالغ، إلا أن الأمور لم تجر دائماً على هذا النحو، فإذا كان من حق صوفيا أن تفصل بين العاطفة الشخصية والنقد الموضوعي، وهو ما تمت ترجمته في كثير من نصوص اليوميات، فإن هذه القاعدة سرعان ما يجري اختراقها حين تصل المناكفات بين الزوجين إلى ذروتها. ولا تتحرج المؤلفة في هذه الحالة من القول عن زوجها الكاتب: «استنسخت كثيرًا من أعمال ليف نيقولايفيتش؛ لا تعجبني مقالاته، وهذا يحزنني كثيراً؛ ثمة حدة منفرة، وحتى حاقدة، في مقالاته. وأنا أشعر بأنه يهاجم عدواً خفياً في خياله».
والطريف في الأمر أن أندرييفنا التي تسببت غيرتها المرضية على زوجها بإفساد حياتهما معاً، لا تتردد في رد كرة الغيرة إلى مرمى الزوج نفسه، معتبرة أن مصدر تلك الحدة في أسلوبه هو غيرته القاتلة من الموسيقي الروسي سيرجي إيفانوفيتش. وهو أمر لا يَرد بشكل عرضي في يوميات الكاتبة، بل يتكرر باستمرار، وبشكل متعسف مفتعل في بعض الأحيان. ومع أن صوفيا لا تترك مناسبة تمر دون أن تشير إلى ولائها المطلق للرجل الذي اقترنت به، فهي لا تكف عن الإشارة إلى اهتمام إيفانوفيتش بها، وإلى مبادلتها ذلك الاهتمام بمثله. ولعلها ترمي من خلال ذلك إلى إصابة عصفورين بحجر واحد: الأول يتعلق بإرضاء غرورها بصفتها أنثى جميلة مرغوبة لم يفلح الزوج المنصرف إلى شؤونه الشخصية في إعطائها حق قدرها، فيما يهدف الثاني إلى إثارة غيرة تولستوي الذي ما يلبث أن يخرج غير مرة عن بروده العاطفي ليظهر قلقه وتبرمه الواضح بالعلاقة «المريبة» التي تجمع بين الزوجة الشابة التي تصغره بستة عشر عاماً والموسيقي الموهوب، وهو ما يعتقد بعضهم بأن ظلاله وتأثيراته لم تكن بعيدة تماماً عن رواية تولستوي المعروفة «أنَّا كارنينا».
لكن السبب الحقيقي للعطب الذي أصاب العلاقة بين الزوجين في صميمها هو أن كل واحد من الطرفين أراد من هذا الزواج ما يلبي احتياجاته وتطلعاته الشخصية. فتولستوي، شأنه شأن معظم المبدعين، كان يدرك في قرارته بصفته كاتباً، أنه غير معني بتدبير شؤون المنزل أو الاعتناء بالأطفال، وأن الشيء الوحيد الذي يجيد القيام به هو الكتابة. على أن صوفيا، رغم اقتناعها بخصوصية الزوج وتفهمها لمزاجية الكتاب وحاجتهم الماسة إلى الحرية، لم تستطع أن تتقبل مسألة إهماله لحقوقها الطبيعية بصفتها زوجة وأنثى، أو إهماله لأطفاله، خاصة في حالات المرض. ورأت في تذرعه بالكتابة لتبرير انصرافه عنها، وعن أبنائها الكثر الذين بلغ عددهم ستة عشر، توفي 3 منهم فيما بعد، حجة غير مقنعة لأحد، لأنه كان يقضي كثيراً من أوقاته في مجالسة أصدقائه ومريديه. ومع أنها لم تعارض بعض أنشطة زوجها الاجتماعية والإنسانية، بل إنها شجعته على إنشاء مطاعم مجانية أو شبه مجانية للفقراء والمحتاجين، فإنها رفضت بإلحاح تخليه عن حقوقه المالية لناشري رواياته وأعماله، ورفضت بإلحاح أكبر توزيع ممتلكاته الشاسعة على الفلاحين، وعلى أتباعه من طائفة «الدوخوبوريين» الذين رأوا فيه معلمهم ومرشدهم الروحي.
لم تترك صوفيا أندرييفنا أي فرصة تُذكر دون أن تعترف بحبها المطلق لليف تولستوي. وهو ما عبرت عنه بالقول «الزواج من العبقري لا يتطلب كثيراً من العقل، بل كثيراً من الحب»، أو القول في مكان آخر: «نحن النساء لا نستطيع أن نحيا من دون معبود، وقد كان ليف معبودي، ولكنه لم يرَ ذلك». وهذا الحب لم يقتصر بالنسبة لها على الأقوال، بل عبر عن نفسه من خلال تكريس حياتها لتدبير شؤون العائلة، والسهر على صحة الجميع وسعادتهم، وصولاً إلى نسخ روايات الزوج ومقالاته، ومناقشة أفكاره وطروحاته المختلفة، بل إنها لم تتردد، بما لعائلتها من وزن اجتماعي، في زيارة القيصر نقولا الأول مناشدة إياه الإفراج عن بعض أعمال تولستوي التي صادرتها الرقابة، مخففة من وطأة بعض آرائه «المتطرفة» حول بعض شؤون السياسة والدين، مطالبة إياه بالعمل على حماية الزوج بعد أن تلقى غير مرة تهديدات جدية بالقتل.
وحين ألقت الكنيسة الروسية الحُرْم الشامل على الكاتب، تولت الزوجة بنفسها قيادة حركة التضامن مع الزوج المتهم بالخروج على التعاليم المسيحية، وكتبت بنفسها الرسائل التي تستنكر القرار الجائر، ووزعتها في جميع أنحاء العالم. إلا أن صوفيا ظلت تحس في أعماقها بأن كل ذلك الحب وتلك التضحيات لم يشفعا لها لدى الزوج الذي كان يسْلم نفسه بالكامل لشؤون الكتابة من جهة، ولدعوته الاجتماعية والإصلاحية من جهة أخرى. كما لم تستطع الزوجة المثقلة بالوحشة التي لاحقها على امتداد حياتها هاجس الانتحار أن تجد تفسيراً مقنعاً لما رأت فيه نوعاً من السلوك الفصامي لذلك الذي «يطعم مئات الجياع، فيما يهمل أبناءه تماماً». وعلى مدى كتابها الضخم، يمكن لنا أن نقرأ عبارات وتساؤلات مريرة، من مثل: «كيف يفهم تولستوي الحياة السيكولوجية للبشر، ولا يفهم زوجته وأولاده؟!»، أو مثل: «إنه يكتب سيرته كقديس، ولن يعرف أحد ما فعله بعائلته»، بل إنها لا تتحرج في لحظات غضبها وسخطها العارمين من الطعن في مصداقيته الأخلاقية والأدبية على حد سواء، حيث «لا ينفك يدعو أتباعه إلى الفضيلة، والترفع عن الشهوات، فيما رواياته تدعو إلى الجنس والرذيلة، وتعاني من الحموضة الزائفة».
ولعل أكثر ما يلفت انتباه القارئ في أثناء تتبعه للمأزق المأساوي الذي أفسد حياة الزوجين، وأفضى بتولستوي إلى الرحيل عن المنزل الزوجي، هو أن الغيرة العمياء التي استبدت بأندرييفنا لم تكن تتعلق بعلاقات زوجها النسائية، إذ هي لم تُشر على الإطلاق إلى أي أمر من هذا النوع، بل انصبت غيرتها على كل المحيطين بالزوج، خاصة جامع التحف تشيرتكوف الذي رأت فيه صوفيا «معبود تولستوي ومنافسها الأخطر على قلبه»، خاصة أن الزوج الخائف على مصير إرثه الأدبي بعد رحيله قد عهد إليه من دون الجميع بحماية هذه المذكرات من السرقة أو التزوير. فقد كان صاحب «سلطان الظلام» متيقناً من أن أندرييفنا تتلصص بشكل دائم على مذكراته، بغية الوقوف على مشاعره الحقيقية تجاهها.
والواقع أن ما قرأته صوفيا خلسة في مذكرات الزوج قد أصابها بالهلع والصدمة التامة، إذ إنه يصفها تارة بالحمقاء، وتارة بالشريرة التي تضيق عليه الخناق، وتعمل على عزله عن أصدقائه كافة، وصولاً إلى وأد طاقته الإبداعية. وهي تعترف تبعاً لذلك بأن قرارها بكتابة مذكراتها، بكل ما تتضمنه من تفاصيل يومية صغيرة، كان يهدف إلى تقديم الرواية «الصائبة» عن العلاقة المضطربة، في مقابل رواية الطرف الآخر المليئة من وجهة نظرها بالتشوهات والافتئات على الحقيقة. إلا أنها ظلت تشعر في قرارتها بأن المعركة بينها وبين زوجها لم تكن متكافئة على الإطلاق، حيث استطاع تولستوي، بما له من سلطة، أن يفرض على العالم رؤيته الخاصة للأحداث، محولاً إياها إلى نسخة معدلة من كسانيتا، زوجة سقراط المتسلطة التي لم تتورع على الإطلاق عن معاقبته بقسوة، وصولاً إلى جَلده بالسوط. وإذ أدركت أندرييفنا فساد العدالة الأرضية، وانحيازها للأقوى والأكثر نفوذاً، لم تجد بدا من الاستنجاد بعدالة السماء، معفية نفسها من أي مسؤولية تُذكر عما لحق بزواجها من أعطاب، هاتفة بأسى مرير «يا إلهي، ساعدني على تحمل هذا الألم، إذ لا ينفك تولستوي يقدم نفسه للأجيال القادمة بصفته شهيداً، وبصفتي امرأته الخاطئة».



Art





Source link

فهد حسين (ناقد بحريني): رسالة إلى محفوظ


> أيها العملاق الذي كنت ولا تزال تسكن أبراجاً بنيتها من عالم العلم والمعرفة والفلسفة، إليك أيها الباحث عن مكنونات شعبك وعطشه وجوعه، وما زلت تلقمه المفردة والجملة والعبارة فيلقفها فرحاً مسروراً، قربت لنا المسافة الزمانية والمكانية لكي نعيش الحالات التي مر بها الشعب المصري قبل وبعد الثورة. ذهبنا معك ونحن في أوج بهجتنا إلى أقبية الحارات المختلفة لتكشف لنا عن أولادها وأسرارها، هذه الحارات التي توسدت العلم والتاريخ والمعرفة وأحقية السؤال، ولم يكن منعها حاجزاً منع قراءك من احتضانها، وحين تعلقت الرواية بمخيالنا عرفنا مدى القسر والقساوة الشرسة لهذا المنع، وعرفنا يد الغدر كيف حاولت منعك من عبور العالم، ولكنها فشلت، وبقي حلمك الجميل يرفرف بجناح المعرفة والتحدي والتنوير لتبقى الكلمة الحرة مجداً وتراثاً وثقافة تتخلخل بين مفاصل الشخصيات التي رسمتها في أعمالك الباقية ما بقي الدهر بين فتوات الكلمة التي صدحت عند الكثير من الأجيال التي تربت على يديك… وفتوات الحارات والأمكنة التي تسيدت الحرافيش وبعضاً من قرى التخيل، وسارت عبر رحلة ابن فطومة لتصل بنا إلى فنتازيا الحب. وكانت ولا تزال أعمالك الإبداعية القصصية والروائية والسينمائية نبراساً يقربنا من تحدي الواقع، وكشف زيف المجتمع، لكن لم نشعر بقساوة التعب إلا حين أردنا أن نرسم عشقنا لك لغة، كنت ولا تزال بيننا نأكل الخبز الذي كونته في قصصك، ونشرب الماء الذي ظهر من بئر رواياتك، ونسمر مع أعمالك.






Source link

قراءة في مدرسة «الرواية الجديدة»


قراءة في مدرسة «الرواية الجديدة»


الثلاثاء – 22 محرم 1443 هـ – 31 أغسطس 2021 مـ رقم العدد [
15617]


الرباط: «الشرق الأوسط»

صدر حديثاً عن «دار ملتقى الطرق» كتاب جديد للكاتب المغربي أحمد المديني تحت عنوان «كي نفهم الرواية الجديدة: دراسة، نصوص وحوار خاص»، وذلك ضمن سلسلتها «مواعد».
وحسب ورقة تعريفية فإن هذا العمل الواقع في 166 صفحة، يتوزع على قسمين. وهو يقدم قراءة مفصلة ودقيقة محكمة لإحدى أهم المدارس الروائية والأدبية في القرن العشرين، وهي مدرسة «الرواية الجديدة»، التي ظهرت في فرنسا في نهايات الأربعينات، واتسعت وتطورت لتصبح نهج الكتابة السردية والمميزة لأهم الأقلام الروائية الفرنسية من أمثال ناتالي ساروت، وكلود سيمون، ومشيل بوتور، وآخرين. وحسب الكتاب، تأثر بهذه المدرسة كثير من الكتاب، ولم يلِها أي تيار محدد يفوقها، وذلك دليل عمق رؤيتها وأصالة فنها وتعبيرها عن العصر.
ويرى المؤلف أن آلان روب غريي ومرغريت دوراس، على تباعد أسلوبهما، يمثلان هذه المدرسة خير تمثيل، وخاصة روب غرييه الذي يعد منظراً لها وكتب أفضل رواياتها التي استخلص منها النقاد قواعد فنها. ويضم الكتاب «شرحاً لفهم هذه القواعد، ونصوصاً لصاحبها، وحواراً خاصاً أجراه المديني مع غرييه، وهو حوار شهادة يزود القارئ بالمصادر الأصلية لهذه التجربة وجمالية تعبيراتها»، كما يتضمن الكتاب تعريفاً بمارغريت دوراس ونصاً لها تتحدث فيه عن الرواية الجديدة.



المغرب


أخبار المغرب





Source link

الهجرة والرحيل في النص العربي


عن دار «الظاهرية» للنشر والتوزيع في الكويت، صدر أخيراً كتاب «رواء الغليل في أدب الهجرة والرحيل»، للناقد الكويتي الدكتور براك القعيط.
ويسلط الكتاب الضوء على موضوعي «الهجرة والرحيل» في النص العربي متخذاً من روايتي «موسم الهجرة إلى الشمال» للروائي السوداني الطيب صالح، و«مقام عزيز» للكاتب السعودي عبد العزيز الجاسم مادة للدراسة. ‏ويسعى المؤلف إلى «تقديم صورة متطورة عن النقد العربي الممنهج والبعيد عن المسائل النظرية الأكاديمية التي لا تطبق فعلياً على موضوع النقد، حيث ينتهج أسلوب التحليل العام المشفوع بالبحث الفني عن التقنيات الأدبية التي تساهم في بناء الجودة الأدبية في الأعمال الروائية». وهو يدعو إلى «تغيير الطريقة النقدية التنظيرية التي يتم بها نقد الأعمال الأدبية، والابتعاد عما أسماه (النقد الصحافي) الذي يركز على النظريات النقدية دون الاهتمام بطريقة تطبيقها على النص»، مشيراً إلى أن «اشتغال الناقد على دعم الحركة الأدبية واستخراج أهم الأعمال الأدبية هي التي ستبرز هذه الأعمال وتنتج مشهداً أدبياً جديداً».
‏ويتكون الكتاب من ثلاثة أبواب، كل باب منها يتكون من عدة فصول تتناول دراسة العناصر الأدبية وتقنيات وفنيات العمل الأدبي ومناقشة تفصيلية لموضوعي الهجرة والرحيل.






Source link

«الشارقة الثقافية»: من أجل خطاب جديد لقراءة التراث


«الشارقة الثقافية»: من أجل خطاب جديد لقراءة التراث


الثلاثاء – 22 محرم 1443 هـ – 31 أغسطس 2021 مـ رقم العدد [
15617]


الشارقة: «الشرق الأوسط»

صدر أخيراً العدد (59) لشهر سبتمبر (أيلول) من مجلة «الشارقة الثقافية» التي تصدر عن دائرة الثقافة بالشارقة، وجاء في الافتتاحية التي حملت عنوان «التواصل الثقافي وركائز التقدم الحضاري»، أنّ مفهوم الشراكة الثقافية اتخذ أبعاداً جديدة، خصوصاً بعد التحولات والتطورات التي شهدها عالمنا المعاصر على مستوى العلاقات والفعاليات؛ إذ تحوّل هذا المفهوم إلى منهج عالمي إنساني يكرس الانفتاح والتعاون والتفاعل والتواصل.
أما مدير التحرير نواف يونس؛ فدعا في مقالته «المقدمات الأولى للنقد الفني عربياً» إلى نظرة جديدة للماضي، باعتباره ليس مجرد تراكم نوعي وحسب، بل بما ينضوي عليه من لحظات وعي، تجعله تراثاً يحمل قيمته الجمالية والفنية.
وفي تفاصيل العدد، توقف يقظان مصطفى عند جابر بن حيان «أبو علم الكيمياء» الذي صنع أول مختبر يسترشد المنهج العلمي. وكتبت هبة أبو الفتوح عن بوكاشيو صاحب «الديكاميرون» الذي تأثر بكتاب «ألف ليلة ولية»، في حين تناول أحمد أبو زيد تاريخ مدينة سراييفو التي تحمل عبق الشرق الإسلامي. وجال محمد العساوي في ربوع مدينة السعيدية التي تعد جوهرة المغرب الزرقاء.
أمّا في باب «أدب وأدباء»؛ فتابع كل من عبد العليم حريص وجعفر العقيلي فعاليات الدورة الخامسة من «ملتقى الشارقة للتكريم الثقافي»، الذي احتفى بالأدباء في أوطانهم وكرَّم مبدعي الأردن. وتناول صابر خليل الاتجاهات الجديدة في الرواية التي أسسها الطاهر وطار، وعبّر بالكتابة عن هويته وواقعه الجزائري. وكتب نبيل سليمان عن الإيقاع الذي يعد من أسرار الإبداع، وقرأ وليد رمضان سيرة عبد الله الطيب الذي يعتبر عميد الأدب العربي في السودان، وأجرى محمد زين العابدين حواراً مع الكاتبة هالة البدري التي رأت أن هناك علاقة وثيقة بين الشخصية المصرية والبيئة الريفية، بينما ألقى حسن بن محمد الضوء على تجربة الكاتبة السودانية استيلا قايتانو التي تعد رائدة الرواية باللغة العربية في جنوب السودان. وتناول خلف أبو زيد مسيرة الأديب عيسى الناعوري.
ومن الموضوعات الأخرى، حاور أحمد حسين حميدان الدكتور عبد المالك أشهبون الذي دعا إلى تأسيس خطاب جديد لقراءة التراث. وكتبت غنوة عباس عن الدكتور محمد عناني «الذي غاص في عمق الأدب العالمي وترجمه»، في حين حاور الأمير كمال فرج الدكتور يسري عبد الغني الذي أصدر 55 كتاباً في الأدب والتاريخ والتحقيق والنقد. وتناول ناجي العتريس سيرة الشاعر كامل الشناوي الذي درس الآداب العربية والأجنبية في عصورها المختلفة، وكان من رواد ندوات طه حسين والعقاد، وغيرها من الموضوعات.
وفي باب «فن. وتر. ريشة» نقرأ الموضوعات التالية «إطلاق الخيال الإبداعي في تدوير (المهمل)» لمحمد العامري، و«السينما المستقلة…المعادلة الأصعب في حصد الجوائز»، لأسامة عسل، و«هدى العجيمي ورحلة نصف قرن في الإذاعة المصرية»، لمصطفى عبد الله، و«طاهر أبو فاشا وقصته مع رابعة العدوية وأم كلثوم»، لمحمد الشحات.
وفي باب «تحت دائرة الضوء»، نشرت المجلة قراءات وإصدارات، منها «التحليل الاجتماعي للأدب» لنجلاء مأمون، و«تجسيد الطبيعة وتوظيفها… بين الفن والمضمون في (فرح) وقصص أخرى»، لمصطفى غنايم، و«محمد البريكي يتساءل في شعره عن هموم الإنسان وتطلعاته»، لزمزم السيد، و«في كتابه (حارة العرب) المستشرق جوستاف لوبون أنصف الإسلام»، لحجاج سلامة، و«النوم إلى جوار الكتب… لؤي حمزة يرصد حاضر الكتابة وماضي الحياة»، للدكتورة هويدا صالح، و«أحمد يحيى علي والخطاب الروائي»، لانتصار عباس، و«السرد الأدبي من التجريبي إلى الترابطي»، لأبرار الآغا، و«محمد المر من القص إلى الرؤيا» لناديا عمر.
وأفرد العدد مساحة للقصص القصيرة والترجمات لمجموعة من الأدباء والمبدعين العرب: ضو سليم، ومصطفى الحفناوي، وذكاء ماردلي، ورفعت عطفة، وآخرين، بالإضافة إلى الزوايا الثابتة.



الامارات العربية المتحدة


Art





Source link

شعراء التسعينات بين حدّي الحداثة وما بعد الحداثة


شعراء التسعينات بين حدّي الحداثة وما بعد الحداثة

كتاب نقدي يرى أن ثقافتهم اقتصرت على التراثية التقليدية أساساً


الثلاثاء – 22 محرم 1443 هـ – 31 أغسطس 2021 مـ رقم العدد [
15617]


فاضل ثامر

تثير الناقدة الدكتورة بشرى موسى صالح، أستاذة النقد الأدبي الحديث في الجامعة المستنصرية ببغداد، في كتابها النقدي الجديد «عمود ما بعد الحداثة… النص الكاشف عن شعر التسعينات العراقي» الصادر عام 2021، مجموعة من الإشكالات النقدية والاصطلاحية الخلافية المتعلقة بتوصيف موجات حركات الحداثة الشعرية منذ الخمسينات عموماً، وشعر تسعينات القرن الماضي بشكل خاص.
وبوصفها ناقدة جادة، ومجتهدة، فهي ترفض الركون إلى بعض المصطلحات الشائعة في النقد الأدبي، ومنها مصطلح الجيل الأدبي، وتطرح بديلاً نقدياً عنه يتمثل فيما تسميه بــ«العمود» وتعني به عمود الشعر الذي هو إعادة تدوير للمصطلح التراثي الكلاسيكي الذي اكتشفه النقاد العرب القدامى واجترح اسمه لاحقاً المرزوقي. ومن جهة أخرى، فهي ترى أن حركات الحداثة في الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات تنتمي بشكل أساسي إلى مفهوم «الحداثة»، بينما ينفرد شعر التسعينات بالانتماء إلى مفهوم «ما بعد الحداثة» على الرغم من إدراكها أن شعر التسعينات يضم 3 تنويعات أساسية هي قصيدة العمود، وربما العمود المحدث الذي يطلق عليه مصطلح قصيدة الشعر، وقصيدة التفعيلة (الشعر الحر)، وقصيدة النثر، وهو تعميم لا يمكن القبول به.
ففي معرض رفضها لمصطلح الأجيال، تذهب إلى أن فكرة الأجيال تضع حداً فاصلاً بين جيل وآخر، حداً يقوم على موت الجيل السابق فنياً أو نقدياً، ليحيا على أنقاضه جيلٌ آخر، كما أنها ترى أن المعيار الزمني هو خارج عن الكينونة الفنية، وهو يذهب بدلالته إلى ما لا علاقة له بمفهوم الامتداد الفني الرافض لفكرة الموت، والانتفاء، والمؤمن بفكرة التحول.(ص7)
وأرى أن الناقدة الكريمة حاولت أن تختزل فكرة «الجيل» بهذه الحدود، متجاهلة التبريرات التي قدمها النقد العراقي للدفاع عن فكرة الأجيال الأدبية. فلقد سبق لي «بوصفي أحد المدافعين عن فكرة الأجيال» أن أشرت في أكثر من دراسة أن التحولات والانكسارات والانحناءات في تجربة الحداثة الشعرية ألزمت الناقد اللجوء إلى التحقيب والتأطير والتقنين، وأحياناً التجييل للإمساك بالظلال الرجراجة الهاربة لفضاء الحراك الشعري في مختلف مراحله وتقلباته، وأن الركون إلى فرضية التجييل التي أثبتت فاعليتها قد استطاعت أن تحل بعض الإشكالات التقييمية الدقيقة التي واجهت النقد في مراحل الحداثة الشعرية المبكرة. كما سبق لي أن ألمحت بوضوح إلى أن مصطلح الجيل لا ينصرف إلى جميع المظاهر والاتجاهات الأدبية خلال العقد المحدد، وإنما ينصرف إلى اتجاه مذهبي أو فني ومهيمن، مثل جيل الستينات الشعري الذي يشير إلى تجارب تجديدية محددة في الشعر العربي تختلف عن تجارب شعراء الخمسينات مثلاً. ولذا فقد عمد النقاد إلى عدم إدراج الكتابات الشعرية التقليدية تحت شعرية الستينات، على الرغم من أنها من الناحية الزمنية ظهرت في الستينات وعاصرت تجارب الستينيين. وهذا تأكيد على أن مصطلح الجيل في عرف النقاد العراقيين لم يشمل كل النتاجات الشعرية التي تظهر خلال عقد ما، أو جيل معين، ضمن مواصفات شعرية ذلك الجيل، وإنما اشترط توافر الجذر الفني المحرك أساساً، كما اقترح بعض النقاد إدراج الشعراء الذين لم يدرجوا تحت باب الشعر الستيني تحت مصطلح جديد هو شعراء الجيل الضائع، وهو ما لم تفعله الناقدة عندما عمّمت توصيفاً غريباً يدرج جميع أنماط الكتابة الشعرية التسعينية، وأعني بها قصيدة العمود التقليدي المحدث، وقصيدة الشعر الحر، وقصيدة النثر، تحت باب مصطلح شعر ما بعد الحداثة.
وفي دفاعها عن اعتماد مصطلح «العمود» بديلاً عن «الجيل»، تذهب إلى أن العمود في امتداده النقدي الاصطلاحي التراثي يلخص القوانين العامة لشكل الصياغة ومحتواها التعبيري في الثلاثية البنائية (الصوت، التركيب، الدلالة)، وتراه أنموذجاً يختزل دلالته الشعرية ويدلّ عليها، ولا يعتمد البعد الزمني فيه إلا إطاراً خارجياً، غالباً ما تتجاوزه اللوحة التعبيرية، وتغادر حدوده الفنية. (ص8) فالناقدة تعتقد أن شعر الروّاد أو شعر التفعيلة وما تلته من موجات حداثية يمثل «عمود الحداثة» في امتداد الماهية الشعرية الحداثية التي دشنها الرواد، وفتحوا بها أبواب الحداثة. وجرياً على ذلك واستقراء لعنوان الكتاب فهي توحي بأن النص الكاشف عن شعر التسعينات العراقي يتمثل فيما تسميه «عمود ما بعد الحداثة» وتعترف الناقدة بأن استعارة مصطلح العمود هو محاكاة الرؤيا النقدية التراثية، كما أنها ترى أن هذا المصطلح يجسد الرغبة في تعميق روح الامتداد عبر التحول، واستقراء الدلالة النقدية التي يحملها مصطلح العمود. ومن جهة أخرى، فهي تعيد توصيف مشروع ما بعد الحداثة القائم على التشتت والتقويض واللامعيارية، وحمولات الفلسفة والفكر المتحكم في الرؤية الثقافية، وتسقطه قسراً على تجربة الشعر التسعيني بأجنحته الثلاثة؛ العمودي، والحر، وقصيدة النثر.
وفي تقديري أن شعر التسعينات بشكل خاص من خلال هيمنة شكله العمودي المسمى بقصيدة الشعر يمثل انتكاسة وارتداداً عن مشروع الحداثة، أو لا يقترب من شواطئ ما بعد الحداثة مطلقاً، وربما يمكن أن نستثني تجارب شعرية محدودة مثل شعر عارف الساعدي الذي يقترب، بصعوبة، من فكرة الحداثة، لكنه يظل بعيداً عمّا بعد الحداثة، إلى درجة كبيرة، لكننا من جهة أخرى نتفق مع الناقدة في أن بعض تجارب قصيدة النثر التسعينية، ومنها تجربة الشاعر عبد الأمير جرجس تقترب إلى حد كبير من ضفاف مشروع ما بعد الحداثة. كما يمكن لنا إدراج تجارب قصيدة التفعيلة أو الشعر الحر التي تمثلها في الكتاب بشعر الشاعر مشتاق عباس ضمن مشروع قصيدة الحداثة.
وفي كتابي النقدي «رهانات شعراء الحداثة» (2019) وجدت صعوبة في تقييم وتقويم وتوصيف التجربة الشعرية التسعينية. وقد أشرت في حينها إلى أن قصيدة الشعر تلك ظلت متسمة بالاستسلام للموقف الغنائي الرومانسي والذاتي إلى درجة كبيرة، وهو موقف يذكرنا بكثير من تجارب الرومانسيين العرب من مهجريين وشاميين، بينما قصيدة الحداثة لم تعد – هذا إذا أردنا إدراج قصيدة الشعر إلى فضائها – تحتمل مثل هذا الغناء الرومانسي الحالم، وهذه النزعة النرجسية الشديدة والاقتناء بالذات، إذْ راحت قصيدة الحداثة تكشف عن رؤيا فلسفية، وربما متفلسفة للعالم والإنسان، ما جعلها تكتسب هدوءاً وعمقاً وتأملاً، وأكثر ميلاً للشعر المهموس الذي لا يطمح إلى ارتقاء منبر الخطابة المباشرة، فالملامح الحداثية التي أخذت بها قصيدة الشعر التسعينية لا تكفي، لأنها تضيع، في الغالب، داخل رؤيا عمودية. وألمحت إلى أن نخبة شعراء التسعينات تكمن في اقتصار ثقافتهم على الثقافة التراثية التقليدية أساساً، ولم يحاولوا الاطلاع على تجارب الشعر العالمي الحداثية عن طريق أصولها اللغوية أو مترجمة، كما أن مرجعياتهم الثقافية ظلت محدودة، وكانوا ينهلون من منابع محدودة، ويتعلمون بعضهم من بعض، وأحياناً يكررون نماذج معروفة مكررة. ويمكن القول إن ثقافتهم أقل بكثير من ثقافة شعراء الخمسينات.
ولذا، فإن التجربة الشعرية التسعينية العراقية بحاجة إلى إعادة قراءة وتأمل، وشخصياً لا أخفي إعجابي باجتهادات الناقد علي سعدون في كتابه «جدل النص التسعيني» (الصادر عام 2010) ففيه كثير من المعالجات التي اشتبكت مع طبيعة هذه التجربة الخلافية.
ومن ذلك نرى أن مصطلح العمود، الذي اجترحته الناقدة لا يفي بالغرض ليكون نصاً كاشفاً لتحديد خصائص أي تجريبية شعرية، ومنها شعر التسعينات العراقي، وإذا كنا بحاجة إلى معيار نحتكم إليه لمثل هذا التقييم يمكننا العودة إلى مفهوم الأدبية الذي سبق للناقد رومان جاكوبسن أن اقترحه، والذي أصبح فيما بعد مقابلاً ونظيراً لمفهوم الشعرية، إذ يرى جاكوبسن أن مفهوم الأدبية يذهب إلى الكشف عن المقومات التي تجعل من نص ما حاملاً لمقومات الأدبية، وكان جاكوبسن أحد أبرز ممثلي الشكلانية الروسية قد قال عام 1919 إن هدف علم الأدب ليس أدبياً. وبدلاً من البحث عن الخصائص المجردة مثل الخيال بوصفه أساس الأدبية، ركز الشكلانيون الروس على المحسنات البلاغية البارزة للعمل الأدبي، وخاصة الشعري، وهم يؤسسون للغتهم بمصطلحات عن الوزن والقافية وبقية الأنماط الصوتية والتكرار. وكانت «الأدبية» تفهم بوصفها نزعاً للمألوفية عن طريق سلسلة من الانزياحات عن اللغة «المعيارية» «أو الاعتيادية»، ولذا تبدو مثل علاقة بين التوظيفات المختلفة للغة، والتي تكون فيها التوظيفات المتناقضة عرضة للانتقال على وفق السياقات المتحولة.
ومن هنا نخلص إلى القول إن شعر التسعينات يستحق منا نحن النقاد جهداً استثنائياً لفحص مفاصله المختلفة، وحسناً فعلت الناقدة أ. د. بشرى موسى صالح بوقفتها النقدية الجادة واجتهادها النقدي الاصطلاحي لإعادة قراءة وفحص وتقويم شعر التسعينات العراقي. وهذا الأمر لا يمنع الدخول معها في سجال نقدي جاد حول بعض المفاهيم والمصطلحات والإجرائية التي اجترحتها أو أعادت تدويرها مثل مصطلح «العمود» وأحكامها الخاصة بمفهومي الحداثة وما بعد الحداثة، وارتباطها بحركات الحداثة الشعرية، وبشكل خاص شعر التسعينات العراقي الذي ألصقت به قسراً سمة ما بعد الحداثة وهو منها براء.



العالم العربي


Art





Source link

واقعية الحب | الشرق الأوسط


الروائية الإنجليزية جورج إليوت… من روايتها «آدم بيد»

«قس بروكستون هذا أفضل قليلاً من وثني!»، أسمع أحد قرائي يتعجب، مضيفاً: «كم كان ذلك سيكون مثرياً لو أنك طلبت منه أن يعطي آرثر نصيحة روحانية حقيقية. كان يمكنك تلقينه أجمل الأشياء – ما ليس بأقل جمالاً من قراءة موعظة».
من المؤكد أن ذلك كان بإمكاني، لو أنني التزمت بأكثر مهام الروائي رفعة في تمثيل الأشياء كما لم تحدث ولن تحدث. في تلك الحالة كنت بالطبع سأعيد تشكيل الحياة والشخصية بأكملهما على ذائقتي؛ كنت سأختار أكثر أنواع الكهنة استثنائية، وأجعل أفكاري تشع في فمه بكل المناسبات. لكن ما يحدث، على النقيض من ذلك، هو أنني أحاول جاهدة أن أتفادى أي صورة اعتباطية كتلك، وأن أقدم تصوراً صادقاً للناس والأشياء كما انعكسوا في مرآة عقلي. ولا شك أن المرآة خادعة؛ سيأتي ما يعكر صفاء الصورة أحياناً، يخبو الانعكاس أو يتشوش؛ لكني أشعر بأن من واجبي أن أخبركم بأعلى دقة ممكنة ما هو ذلك الانعكاس، كما لو أنني في منصة الشاهد أروي تجربتي تحت القسم.
قبل ستين عاماً – وهي فترة طويلة، لذا لا غرابة في أن الأشياء قد تغيرت – كان كل القساوسة بعيدين عن التشدد؛ ومن المحتمل جداً أنه إذا امتلك شخص من الأقلية المحدودة مصادر الدخل في بروكستون وهيسلوب في عام 1799، فإنك لن تحبه أكثر من حبك السيد إرواين. هناك احتمال من عشرة إلى واحد أنك ستظنه شخصاً عديم الذوق، متهوراً، وميثودي. إن من النادر جداً أن تؤثر الحقائق في تلك الأداة الجميلة التي تتطلبها أفكارنا المستنيرة وذوقنا الرفيع. ربما تقول: «حسّن الحقائق قليلاً إذن؛ اجعلها أكثر انسجاماً مع تلك الآراء التي تميزنا.
إن العالم ليس ما نريده بالضبط؛ المسه لمساً رقيقاً بقلم بِنسل وتظاهر بأنه ليس تماماً ذلك الشأن المتداخل المشتبك. اجعل الناس الذين لديهم أفكار غير استثنائية يتصرفون بطريقة غير استثنائية. واجعل شخوصك الأكثر عيوباً على الجانب الخطأ دائماً، وشخوصك من أهل الفضيلة على الجانب الصحيح. عندئذٍ سنرى بلمحة عين من الذين علينا أن نُدين، ومن الذين سنقبل. عندئذٍ سنكون قادرين على الإعجاب، دون أدنى إرباك لما نعتقده مسبقاً: سنكره ونحتقر بنكهة اجترار حقيقية مصدرها الثقة المطلقة».
لكن يا صديقتي الطيبة، ماذا ستفعلين بزميلك في الأبرشية الذي يعارض زوجك في مجلس الكنيسة؟ – بالقس الذي ترين أن أسلوبه في الوعظ أقل على نحو مؤلم من مستوى سلفه المأسوف عليه؟ – بالخادمة الشريفة التي تقلق روحك بعيبها الوحيد؟ – بجارتك، يا سيدة غرين، التي كانت فعلاً طيبة معك في مرضك الأخير، لكنها قالت أشياء سيئة عنك منذ شفيت؟ – لا، بزوجك الرائع نفسه بعاداته المزعجة الأخرى إلى جانب عدم مسحه لحذائه؟ هؤلاء الفانون من إخوتنا، كلهم واحداً واحداً، لا بد من قبولهم كما هم: لن تستطيعي تعديل أنوفهم، ولا زيادة ذكائهم، ولا تصحيح أمزجتهم؛ وهم هؤلاء الناس – الذين تمضي حياتك بينهم – الذين من الضروري تقبلهم، العطف عليهم، وحبهم: إنهم هؤلاء القبيحون نوعاً ما، الأغبياء، غير المخلصين، الذين عليك أن تكوني قادرة على الإعجاب بمبادراتهم الطيبة – الذين من أجلهم عليك أن تتمسكي بكل ما يمكن التمسك به من الآمال، كل ما يمكن من الصبر. ولن أكون، حتى لو كان لي الخيار، أن أكون الروائية الذكية التي تستطيع أن تصنع عالماً أفضل بكثير من هذا، عالماً نستيقظ فيه في الصباح لننجز مهامنا اليومية، وتستطيعين فيه أن تلقي نظرة أكثر تمعناً وبرودة على الشوارع المغبرة والحقول الخضراء – على الرجال والنساء الحقيقيين الذين يتنفسون، الذين يمكن أن تجمدهم لا مبالاتك أو يجرحهم تحيزك؛ الذين يمكن أن يشجعهم ويدعمهم إلى الأمام شعورك برفقتهم، تحملك، جرأتك، عدالتك الشجاعة.
لذا يكفيني أن أروي قصتي البسيطة، دون أن أحاول جعل الأشياء تبدو أفضل مما كانت؛ دون أن أخشى شيئاً ما عدا الزيف، الذي على المرء أن يخشاه على الرغم من كل المحاولات الجادة. الزيف سهل جداً، بينما الحقيقة بالغة الصعوبة. يشعر قلم البِنسل بانسيابية لذيذة حين يرسم «الغرفين» – كلما طالت المخالب، وكبرت الأجنحة، كان ذلك أفضل؛ لكن تلك السهولة المدهشة التي ظنناها خطأً عملاً عبقرياً مهيأة للتخلي عنا حين نريد أن نرسم الأسد الحقيقي الذي لا مبالغة فيه. تفحص كلماتك جيداً وستكتشف أنك حتى حين لا يكون لديك ما يدفعك لتكون مزيفاً، فإنه من الصعوبة البالغة أن تقول الحقيقة تماماً، حتى في التعبير عن مشاعرك المباشرة – أشد صعوبة من أن تقول شيئاً لطيفاً عنها لكنه ليس الحقيقة بالضبط.
إنه بسبب هذه الخصلة الثمينة النادرة من قول الحقيقة أجد المتعة في كثير من اللوحات الهولندية، التي يحتقرها ذوو المستويات العالية. أجد مصدراً للتعاطف اللذيذ في هذه الصور الصادقة للوجود البسيط المكرر الذي كان قدرَ أناس من إخوتي البشر يفوق عددهم بكثير عدد أولئك الذين عرفوا حياة البهرجة أو الفقر المدقع، حياة المعاناة المأساوية أو الأفعال التي تهز العالم. إنني أبتعد، دون تردد، عن الملائكة المحمولين على السحاب، عن الأنبياء، والعرافات، والمحاربين الأبطال، باتجاه امرأة عجوز تنحني على أصيص الزهور، أو تأكل عشاءها وحيدة، بينما يسقط ضوء النهار، مخففاً ربما بمظلة من الأوراق، على قلنسوتها وبالكاد يلمس حافة عجلتها الدوارة، وإناء مائها الحجري، وكل تلك الأشياء العامة الرخيصة التي هي من ضرورات الحياة بالنسبة لها؛ – أو ألتفت إلى ذلك العرس القروي، المحصور ضمن أربعة جدران بُنِّيَّة، حيث يفتتح عريس مرتبك الرقص مع عروسه ذات الكتفين العاليين والوجه العريض، بينما ينظر الأصدقاء المسنون والمتوسطو الأعمار، بأنوف وشفاه متعرجة وربما يحمل كل منهم بيده إناء ربع غالون، لكن بقناعة وطيبة لا تخطئهما العين. «قرف!» سيقول صديقي المثالي، «أي تفاصيل سوقية! أي فائدة ترجى من السعي المضني لإعطاء وصف دقيق لعجوز ومهرج؟ أي انحدار للحياة – أي أناس قبيحين وخرقى!».
يا إلهي، قد تكون الأشياء البعيدة تماماً عن الوسامة محببة للنفس. لست متأكدة تماماً من أن الأكثرية من الجنس البشري ليسوا قبيحين، وحتى بين أولئك «سادة جنسهم»، البريطانيين، ذوي الأجساد القصيرة والمناخير المعوجة، والملامح القذرة ليسوا استثناءات مذهلة. ومع ذلك فما بيننا حب أُسريّ عظيم. لديّ صديق أو اثنان يمكن القول عن مستوى ملامحهم إن التفافة الشعر التي تذكّر بأبوللو على حواجبهم سيجدها الكثيرون مرهقة؛ ومع ذلك فإني أعرف تمام المعرفة أن قلوباً رقيقة خفقت لهم، وأن الرسوم المصغرة لهم – على ما فيها من إطراء ليست حلوة – تُقبَّل سراً بشفاه الأمومة. لقد رأيت كثيراً ممن يشبهن تلك السيدة الرائعة التي لم تكن في زهرة أيامها وسيمة، ومع ذلك كانت تحتفظ في درجها الخاص برزمة من رسائل الحب الصفراء، والأطفال الحلوين يمطرون خديها الشاحبين بالقبل. وأعتقد أن هناك كثيراً من الأبطال الشبان، من ذوي الطول المتوسط واللحى الخفيفة، الذين كانوا واثقين بأنهم لن يقعوا في حب من هن أقل جمالاً من إلاهة القمر ديانا، ومع ذلك وجدوا أنفسهم في منتصف العمر سعداء مع زوجة تتهادى. نعم، حمداً لله أن الشعور الإنساني مثل الأنهار الكبرى التي تبارك الأرض: إنها لا تنتظر الجمال – بل تتدفق بقوة لا تقاوم وتأتي بالجمال معها.
كل التقدير والتبجيل لما في الشكل من جمال مقدس! دعونا نتعهده بالعناية إلى أقصى حد في الرجال والنساء والأطفال – في حدائقنا وفي بيوتنا. لكن دعونا نحب ذلك الجمال الآخر أيضاً الذي يكمن ليس في تناسب سري، وإنما هو في سر التعاطف الإنساني العميق. ارسم لنا ملاكاً، لو استطعت، برداء وردي مرفرف، ووجهاً جعله النور السماوي باهتاً؛ ارسم لنا مرات أكثر عذراء تدير وجهها اللطيف إلى الأعلى وتفتح ذراعيها مرحبة بالإشعاع المقدس؛ لكن لا تفرض علينا أي قواعد جمالية تنفي عن إقليم الفن تلك السيدات السمينات اللاتي يقشرن الجزر بأيديهن التي أرقها العمل… أولئك المهرجون بأوزانهم الثقيلة يستمتعون بإجازاتهم في حانات البيرة المتسخة، تلك الظهور المستديرة والوجوه الغبية التي خددتها الأجواء، أولئك الذين انحنوا على المحراث وأنجزوا العمل الشاق لهذا العالم – تلك المنازل بمقاليهم المعدنية، وأباريقهم البنية، وكلابهم الشرسة، وبصلهم المتراكم. في هذا العالم كثير من أولئك الناس العاديين الخشنين، الذين ليس لديهم بؤس عاطفي ملون بالمناظر الطبيعية! إن من الضروري أن نتذكر وجودهم، وإلا قد يحدث أن نتركهم مبعدين تماماً عن ديننا وفلسفتنا، ونرسم نظريات رفيعة تتناسب فقط مع عالم من الحالات القصوى. لذا لندع الفن يذكّرنا دائماً بهم؛ لذا لنجعل الرجال مهيئين ليحبوا التمثيل الصادق للعادي من الأشياء إذ يصور أوجاع الحياة، ويبتهج برسم نور السماء وهو يسقط بلطف عليهم. هناك قليل من الأنبياء في العالم؛ قليل من النساء الجميلات على نحو متجاوز؛ قليل من الأبطال. لا يمكنني أن أمنح كل حبي وإجلالي لتلك الأشياء النادرة: أحتاج إلى كثير من تلك المشاعر للناس من أمثالي الذي أراهم كل يوم، خصوصاً تلك القلة الواقفة في مقدمة الجموع الضخمة، الذين أعرف وجوههم، ألمس أيديهم، والذين لأجلهم علي أن أمضي بتهذيب ولطف. لا فقراء نابولي ذوو المظهر الغريب ولا المجرمون الرومانسيون يتكررون مثلما يتكرر عاملك العادي الذي يحصل على خبزه ويأكله بطريقة فجة ولكنها واقعية بسكين في جيبه.
ثمة حاجة أكبر لأن أتخلق بالتعاطف الذي يربطني بهذا المواطن البسيط الذي يزن سكري بربطة عنق وصدرية رديئة الاختيار، من أن أتعاطف مع أكثر الأوغاد وسامة وهو يرتدي لفحة حمراء وريشاً أخضر، – حاجة كبرى لأن يمتلئ قلبي بإعجاب المحب تجاه خصلة من الطيبة المهذبة في إنسان ذي عيوب يجلس على الأرض نفسها معي، أو لقسيس من أبرشيتي قد يميل إلى السمنة أكثر من اللازم ومن نواحٍ أخرى ليس مثل أوبرلين أو تيلوتسون، من أن أعجب بأفعال أبطال لن أعرفهم إلا من خلال ما يقال عنهم، أو بأكثر الخصال الكنسية سمواً وتجريداً التي اخترعها روائي متمكن.
* من كتاب «معالم الحداثة» الذي يصدر قريباً عن دار «روايات» في الشارقة






Source link

فهد حسين (روائي بحريني): رسالة إلى محفوظ


> أيها العملاق الذي كنت ولا تزال تسكن أبراجاً بنيتها من عالم العلم والمعرفة والفلسفة، إليك أيها الباحث عن مكنونات شعبك وعطشه وجوعه، وما زلت تلقمه المفردة والجملة والعبارة فيلقفها فرحاً مسروراً، قربت لنا المسافة الزمانية والمكانية لكي نعيش الحالات التي مر بها الشعب المصري قبل وبعد الثورة. ذهبنا معك ونحن في أوج بهجتنا إلى أقبية الحارات المختلفة لتكشف لنا عن أولادها وأسرارها، هذه الحارات التي توسدت العلم والتاريخ والمعرفة وأحقية السؤال، ولم يكن منعها حاجزاً منع قراءك من احتضانها، وحين تعلقت الرواية بمخيالنا عرفنا مدى القسر والقساوة الشرسة لهذا المنع، وعرفنا يد الغدر كيف حاولت منعك من عبور العالم، ولكنها فشلت، وبقي حلمك الجميل يرفرف بجناح المعرفة والتحدي والتنوير لتبقى الكلمة الحرة مجداً وتراثاً وثقافة تتخلخل بين مفاصل الشخصيات التي رسمتها في أعمالك الباقية ما بقي الدهر بين فتوات الكلمة التي صدحت عند الكثير من الأجيال التي تربت على يديك… وفتوات الحارات والأمكنة التي تسيدت الحرافيش وبعضاً من قرى التخيل، وسارت عبر رحلة ابن فطومة لتصل بنا إلى فنتازيا الحب. وكانت ولا تزال أعمالك الإبداعية القصصية والروائية والسينمائية نبراساً يقربنا من تحدي الواقع، وكشف زيف المجتمع، لكن لم نشعر بقساوة التعب إلا حين أردنا أن نرسم عشقنا لك لغة، كنت ولا تزال بيننا نأكل الخبز الذي كونته في قصصك، ونشرب الماء الذي ظهر من بئر رواياتك، ونسمر مع أعمالك.






Source link